الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الخصائص **
أصل مواضع " ط ر د " في كلامهم التتابع والاستمرار. من ذلك طردت الطريدة إذ اتبعتها واستمرت بين يديك ومنه مطاردة الفرسان بعضهم بعضاً ألا ترى أن هناك كراً وفراً فكل يطرد صاحبه. ومنه المطرد: رمح قصير يطرد به الوحش واطرد الجدول إذا تتابع ماؤه بالريح. أنشدني بعض أصحابنا لأعرابي: مالك لا تذكر أو تزور بيضاء بين حاجبيها نور تمشي كما يطرد الغدير ومنه بيت الأنصاري: أتعرف رسماً كاطراد المذاهب أي كتتابع المذاهب وهي جمع مذهب وعليه قول الآخر: سيكفيك الإله ومسنمات كجندل لبن تطرد الصلالا أي تتابع إلى الأرضين الممطورة لتشرب منها فهي تسرع وتستمر إليها. وعليه بقية الباب. يتركن شذان الحصى جوافلا أي ما تطاير وتهافت منه. وشذ الشيء يشِذ ويشُذ شذوذاً وشذاً وأشذذته أنا وشذذته أيضاً أشذه بالضم لا غير وأباها الأصمعي وقال: لا أعرف إلا شاذاً أي متفرقاً. وجمع شاذ شذاذ قال: كبعض من مر من الشذاذ هذا أصل هذين الأصلين في اللغة. ثم قيل ذلك في الكلام والأصوات على سمته وطريقه في غيرهما فجعل أهل علم العرب ما استمر من الكلام في الإعراب وغيره من مواضع الصناعة مطرداً وجعلوا ما فارق ما عليه بقية بابه وانفرد عن ذلك إلى غيره شاذاً حملاً لهذين الموضعين على أحكام غيرهما. ثم اعلم من بعد هذا أن الكلام في الاطراد والشذوذ على أربعة أضرب: مطرد في القياس والاستعمال جميعاً وهذا هو الغاية المطلوبة والمثابة المنوبة وذلك نحو: قام زيد وضربت عمراً ومررت بسعيد. ومطرد في القياس شاذ في الاستعمال. وذلك نحو الماضي من: يدر ويدع. وكذلك قولهم " مكان مبقل " هذا هو القياس والأكثر في السماع باقل والأول مسموع أيضاً قال أبو داود لابنه أعاشني بعدك واد مبقل آكل من حوذانه وأنسل وقد حكى أيضاً أبو زيد في كتاب حيلة ومحالة: مكان مبقل. ومما يقوى في القياس يضعف في الاستعمال مفعول عسى اسماً صريحاً نحو قولك: عسى زيد قائماً أو قياماً هذا هو القياس غير أن السماع ورد بحظره والاقتصار على ترك استعمال الاسم ههنا وذلك قولهم: عسى زيد أن يقوم و وقد جاء عنهم شيء من الأول أنشدنا أبو علي: أكثرت في العذل ملحاً دائماً لا تعذلا إني عسيت صائما ومنه المثل السائر: " عسى الغويرأ بؤساً ". والثالث المطرد في الاستعمال الشاذ في القياس نحو قولهم: أخوص الرمث واستصوبت الأمر. أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى قال: يقال استصوبت الشيء ولا يقال: استصبت الشيء. ومنه استحوذ وأغيلت المرأة واستنوق الجمل واستتيست الشاة وقول زهير: هنالك إن يسخولوا المال يخولوا ومنه اسفيل الجمل قال أبو النجم: والرابع الشاذ في القياس والاستعمال جميعاً. وهو كتتميم مفعول فيما عينه واو نحو: ثوب مصوون ومسك مدووف. وحكى البغداديون: فرس مقوود ورجل معوود من مرضه. وكل ذلك شاذ في القياس والاستعمال. فلا يسوغ القياس عليه ولا رد غيره إليه. ولا يحسن أيضاً استعماله فيما استعملته فيه إلا على وجه الحكاية. واعلم أن الشيء إذا اطرد في الاستعمال وشذ عن القياس فلا بد من اتباع السمع الوارد به فيه نفسه لكنه لا يتخذ أصلاً يقاس عليه غيره. ألا ترى أنك إذا سمعت: استحوذ واستصوب أديتهما بحالهما ولم تتجاوز ما ورد به السمع فيهما إلى غيرهما. ألا تراك لا تقول في استقام: استقوم ولا في استساغ: استسوغ ولا في استباع: استبيع ولا في أعاد: أعود لو لم تسمع شيئاً من ذلك قياساً على قولهم: أخوص الرمث. فإن كان الشيء شاذاً في السماع مطرداً في القياس تحاميت ما تحامت العرب من ذلك وجريت في نظيره على الواجب في أمثاله. من ذلك امتناعك من: وذر وودع لأنهم لم يقولوهما ولا غرو عليك أن تستعمل نظيرهما نحو: وزن ووعد لو لم تسمعهما. فأما قول أبي الأسود: ليت شعري عن خليلي ما الذي غاله في الحب حتى ودعه فشاذ. وكذلك قراءة بعضهم فأما قولهم: ودع الشيء يدع - إذا وعض زمان يابن مروان لم يدع من المال إلا مسحت أو مجلف فمعنى " لم يدع " - بكسر الدال - أي لم يتدع ولم يثبت والجملة بعد " زمان " في موضع جر لكونها صفة له والعائد منها إليه محذوف للعلم بموضعه وتقديره: لم يدع فيه أو لأجله من المال إلا مسحت أو مجلف فيرتفع " مسحت " بفعله و " مجلف " عطف عليه وهذا أمر ظاهر ليس فيه من الاعتذار والاعتلال ما في الرواية الأخرى. ويحكى عن معاوية أنه قال: خير المجالس ما سافر فيه البصر واتدع فيه البدن. ومن ذلك استعمالك " أن " بعد كاد نحو: كاد زيد أن يقوم هو قليل شاذ في الاستعمال وإن لم يكن قبيحاً ولا مأبياً في القياس. ومن ذلك قول العرب: أقائم أخواك أم قاعدان هذا كلامها. قال أبو عثمان: والقياس يوجب أن تقول: أقائم أخواك أم قاعد هما إلا أن العرب لا تقوله إلا قاعدان فتصل الضمير والقياس يوجب فصله ليعادل الجملة الأولى.
هذا الموضع كأنه أصل الخلاف الشاجر بين النحويين. وسنفرد له باباً. غير أنا نقدم ها هنا ما كان لائقاً به ومقدمة للقول من بعده. وذلك على أضرب: فمنها أن يكثر الشيء فيسئل عن علته كرفع الفاعل ونصب المفعول فيذهب قوم إلى شيء ويذهب آخرون إلى غيره. فقد وجب إذاً تأمل القولين واعتماد أقواهما ورفض صاحبه. فإن تساويا في القوة لم ينكرا اعتقادهما جميعاً فقد يكون الحكم الواحد معلولاً بعلتين. وسنفرد لذلك باباً. وعلى هذا معظم قوانين العربية. وأمره واضح فلا حاجة بنا إلى الإطالة فيه. ومنها أن يسمع الشيء فيستدل به من وجه على تصحيح شيء أو إفساد غيره ويستدل به من وجه آخر على شيء غير الأول. وذلك كقولك: ضربتك وأكرمته ونحو ذلك مما يتصل فيه الضمير المنصوب بالضمير قبله المرفوع. فهذا موضع يمكن أن يستدل اتصال الفعل بفاعله. ووجه الدلالة منه على ذلك أنهم قد أجمعوا على أن الكاف في نحو ضربتك من الضمير المتصل كما أن الكاف في نحو ضربك زيد كذلك ونحن نرى الكاف في ضربتك لم تباشر نفس الفعل كما باشرته في نحو ضربك زيد وإنما باشرت الفاعل الذي هو التاء فلولا أن الفاعل قد مزج بالفعل وصيغ معه حتى صار جزءاً من جملته لما كانت الكاف من الضمير المتصل ولاعتدت لذلك منفصلة لا متصلة. لكنهم أجروا التاء التي هي ضمير الفاعل في نحو ضربتك - وإن لم تكن من نفس حروف الفعل - مجرى نون التوكيد التي يبنى الفعل عليها ويضم إليها في نحو لأضربنك. فكما أن الكاف في نحو هذا معتدة من الضمير المتصل وإن لم تل نفس الفعل كذلك الكاف في نحو ضربتك ضمير متصل وإن لم تل نفس الفعل. فهذا وجه الاستدلال بهذه المسألة ونحوها على شدة اتصال الفعل بفاعله وتصحيح القول بذلك. وأما وجه إفساده شيئاً آخر فمن قبل أن فيه رداً على من قال: إن المفعول إنما نصبه الفاعل وحده لا الفعل وحده ولا الفعل والفاعل جميعاً. وطريق الاستدلال بذلك أنا قد علمنا أنهم إنما يعنون بقولهم: الضمير المتصل: أنه متصل بالعامل فيه لا محالة ألا تراهم يقولون: إن الهاء في نحو مررت به ونزلت عليه ضمير متصل أي متصل بما عمل فيه وهو الجار وليس لك أن تقول: إنه متصل بالفعل لأن الباء كأنها جزء من الفعل من حيث كانت معاقبة لأحد أجزائه المصوغة فيه وهي همزة أفعل وذلك نحو أنزلته ونزلت به وأدخلته ودخلت به وأخرجته وخرجت به لأمرين: أحدهما أنك إن اعتددت الباء لما ذكرت كأنها بعض الفعل فإن هنا دليلاً آخر يدل على أنها كبعض الاسم ألا ترى أنك تحكم عليها وعلى ما جرته بأنهما جميعاً في موضع نصب بالفعل حتى إنك لتجيز العطف عليهما جميعاً بالنصب نحو قولك: مررت بك وزيداً ونزلت عليه وجعفراً فإذا كان هنا أمران أحدهما على حكم والآخر على ضده وتعارضا هذا التعارض ترافعا أحكامهما وثبت أن الكاف في نحو مررت بك متصلة بنفس الباء لأنها هي العاملة فيها. وكذلك الهاء في نحو إنه أخوك وكأنه صاحبك وكأنه جعفر: هي ضمير متصل أي متصل بالعامل فيه وهذا واضح. والآخر إطباق النحويين على أن يقولوا في نحو هذا: إن الضمير قد خرج عن الفعل وانفصل من الفعل وهذا تصريح منهم بأنه متصل أي متصل بالباء العاملة فيه فلو كانت التاء في ضربتك هي العاملة في الكاف لفسد ذلك من قبل أن أصل عمل النصب إنما هو للفعل وغيره من النواصب مشبه في ذلك بالفعل والضمير بالإجماع أبعد شيء عن الفعل من حيث كان الفعل موغلاً في التنكير والاسم المضمر متناه في التعريف. بل إذا لم يعمل الضمير في الظرف ولا في الحال - وهما مما تعمل فيه المعاني - كان الضمير من نصب المفعول به أبعد وفي التقصير عن الوصول إليه أفعد. وأيضاً فإنك تقول: زيد ضرب عمراً والفاعل مضمر في نفسك لا موجود وأما الاستدلال بنحو ضربتك على شيء غير الموضعين المتقدمين فأن يقول قائل: إن الكاف في نحو ضربتك منصوبة بالفعل والفاعل جميعاً ويقول: إنه متصل بهما كاتصاله بالعامل فيه في نحو إنك قائم ونظيره. وهذا أيضاً وإن كان قد ذهب إليه هشام فإنه عندنا فاسد من أوجه: أحدها أنه قد صح ووضح أن الفعل والفاعل قد تنزلا باثني عشر دليلاً منزلة الجزء الواحد فالعمل إذاً إنما هو للفعل وحده واتصل به الفاعل فصار جزءاً منه كما صارت النون في نحو لتضربن زيداً كالجزء منه حتى خلط بها وبنى معها. ومنها أن الفعل والفاعل إنما هو معنى والمعاني لا تعمل في المفعول به إنما تعمل في الظروف. ومن ذلك أن تستدل بقول ضيغم الأسدي: إذا هو لم يخفني في ابن عمي وإن لم ألقه الرجل الظلوم على جواز ارتفاع الاسم بعد إذا الزمانية بالابتداء ألا ترى أن " هو " من قوله " إذا هو لم يخفني " ضمير الشأن والحديث وأنه مرفوع لا محالة. فلا يخلو رفعه من أن يكون بالابتداء كما قلنا أو بفعل مضمر. فيفسد أن يكون مرفوعاً بفعل مضمر لأن ذلك المضمر لا دليل عليه ولا تفسير له وما كانت هذه سبيله لم يجز إضماره. فإن قلت: فلم لا يكون قوله " لم يخفني في ابن عمي الرجل الظلوم " تفسيراً للفعل الرافع ل " هو " كقولك: إذا زيد لم يلقني غلامه فعلت كذا فترفع زيداً بفعل مضمر يكون ما بعده تفسيراً له. قيل: هذا فاسد من موضعين: أحدهما أنا لم نر هذا الضمير على سريطة التفسير عاملاً فيه فعل محتاج إلى تفسير. فإذا أدى هذا القول إلى ما لا نظير له وجب رفضه واطراح الذهاب إليه. والآخر أن قولك " لم يخفني الرجل الظلوم " إنما هو تفسير ل " هو " من حيث كان ضمير الشأن والقصة لا بد له أن تفسره الجملة نحو قول الله عز وجل: وكذلك قوله تعالى: فكذلك قوله: " لم يخفني الرجل الظلوم " إنما هذه الجملة تفسير ل " هو ". فإذا ثبت أن هذه الجملة إنما هي تفسير لنفس الاسم المضمر بقي ذلك الفعل المضمر لا دليل عليه وإذا لم يقم عليه دليل بطل إضماره لما في ذلك من تكليف علم الغيب. وليس كذلك " إذا زيد قام أكرمتك " ونحوه من قبل أن زيداً تام غير محتاج إلى تفسير. فإذا لم يكن محتاجاً إليه صارت الجملة بعده تفسيراً للفعل الرافع له لا له نفسه. فإذا ثبت بما أوردناه ما أردناه علمت وتحققت أن " هو " من قوله " إذا هو لم يخفني الرجل الظلوم " مرفوع بالابتداء لا بفعل مضمر. وفي هذا البيت تقوية لمذهب أبي الحسن في إجازته الرفع بعد إذا الزمانية بالابتداء في نحو قوله تعالى ومعنا ما يشهد لقوله هذا: شيء غير هذا غير أنه ليس ذلك غرضنا هنا إنما الغرض إعلامنا أن في البيت دلالة على صحة مذهب أبي الحسن هذا. فهذا وجه صحيح يمكن أن يستنبط من بيت ضيغم الذي أنشدناه. وفيه دليل آخر على جواز خلق الجملة الجارية خبراً عن المبتدأ من ضمير يعود إليه منها ألا ترى أن قوله " لم يخفني الرجل الظلوم " ليس فيه عائد على هو وكيف يكون الأمر إلا هكذا ألا تعلم أن هذا المضمر على شريطة التفسير لا يوصف ولا يؤكد ولا يعطف عليه ولا يبدل منه ولا يعود عائد ذكر عليه وذلك لضعفه من حيث كان مفتقراً إلى تفسيره. وعلى هذا ونحوه عامة ما يرد عليك من هذا الضرب ألا ترى أن قول الله عز وجل واعلم أن اللفظ قد يرد شيء منه فيجوز جوازاً صحيحاً أن يستدل به على أمر ما وأن يستدل به على ضده البتة. وذلك نحو مررت بزيد ورغبت في عمرو وعجبت من محمد وغير ذلك من الأفعال الواصلة بحروف الجر. فأحد ما يدل عليه هذا الضرب من القول أن الجار معتد من جملة الفعل الواصل به ألا ترى أن الباء في نحو مررت بزيد معاقبة الهمزة لنقل في نحو أمررت زيداً وكذلك قولك أخرجته وخرجت به وأنزلته ونزلت به. فكما أن همزة أفعل مصوغة فيه كائنة من جملته فكذلك ما عاقبها من حروف الجر ينبغي أن يعتد أيضاً من جملة الفعل لمعاقبته ما هو من جملته. فهذا وجه. والآخر أن يدل ذلك على أن حرف الجر جار مجرى بعض ما جره ألا ترى أنك تحكم لموضع الجار والمجرور بالنصب فيعطف عليه فينصب لذلك فنقول: مررت بزيد وعمراً وكذلك أيضاً لا يفصل بين الجار والمجرور لكونهما في كثير من المواضع بمنزلة الجزء الواحد. أفلا تراك كيف تقدر اللفظ الواحد تقديرين مختلفين وكل واحد منهما مقبول في القياس متلقى بالبشر والإيناس. ومن ذلك قول الآخر: زمان علي غراب غداف فطيره الشيب عني فطارا فهذا موضع يمكن أن يذهب ذاهب فيه إلى سقوط حكم ما تعلق به الظرف من الفعل ويمكن أيضاً أن يستدل به على ثباته وبقاء حكمه. وذلك أن الظرف الذي هو " علي " متعلق بمحذوف وتقديره غداة ثبت علي أو استقر علي غراب ثم حذف الفعل وأقيم الظرف مقامه. وقوله فطيره - كما ترى - معطوف. فأما من أثبت به حكم الفعل المحذوف فله أن يقول: إن طيره معطوف على ثبت أو استقر وجواز العطف عليه أدل دليل على اعتداده وبقاء حكمه وأن العقد عليه والمعاملة في هذا ونحوه إنما هي معه ألا ترى أن العطف نظير التثنية ومحال أن يثنى الشيء فيصير مع صاحبه شيئين إلا وحالهما في الثبات والاعتداد واحدة. فهذا وجه جواز الاستدلال به على بقاء حكم ما تعلق به الظرف وأنه ليس أصلاً متروكاً ولا شرعاً منسوخاً. وأما جواز اعتقاد سقوط حكم ما تعلق به الظرف من هذا البيت فلأنه قد عطف قوله " فطيره " على قوله " علي " وإذا جاز عطف الفعل على الظرف قوي حكم الظرف في قيامه مقام الفعل المتعلق هو به وإسقاطه حكمه وتوليه من العمل ما كان الفعل يتولاه وتناوله به ما كان متناولاً له. فهذان وجهان من الاستدلال بالشيء الواحد على الحكمين الضدين وإن كان وجه الدلالة به على قوة حكم الظرف وضعف حكم الفعل في هذا وما يجري مجراه هو الصواب عندنا وعليه اعتمادنا وعقدنا. وليس هذا موضع الانتصار لما نعتقده فيه وإنما الغرض منه أن نرى وجه ابتداء تفرع القول وكيف يأخذ بصاحبه ومن أين يقتاد الناظر فيه إلى أنحائه ومصارفه. ونظير هذا البيت في حديث الظرف والفعل من طريق العطف قول الله عز اسمه وهذا أمر فيه انتشار وامتداد وإنما أفرض منه ومما يجري مجراه ما يستدل به ويجعل عياراً على غيره. والأمر أوسع شقة وأظهر كلفة ومشقة ولكن إن طبنت له ورفقت به أولاك جانبه وأمطاك كاهله وغاربه وإن خبطته وتورطته كدك مهله وأوعرت بك سبله فرفقاً وتأملاً.
وهي ضربان: أحدهما معنوي والآخر لفظي. وهذان الضربان وإن عما وفشوا في هذه اللغة فإن أقواهما وأوسعهما هو القياس المعنوي ألا ترى أن الأسباب المانعة من الصرف تسعة: واحد منها لفظي وهو شبه الفعل لفظاً نحو أحمد ويرمع وتنضب وإثمد وأبلم وبقم وإستبرق والثمانية الباقية كلها معنوية كالتعريف والوصف والعدل والتأنيث وغير ذلك. فهذا دليل. ومثله اعتبارك باب الفاعل والمفعول به بأن تقول: رفعت هذا لأنه فاعل ونصبت هذا لأنه مفعول. فهذا اعتبار معنوي لا لفظي. ولأجله ما كانت العوامل اللفظية راجعة في الحقيقة إلى أنها معنوية ألا تراك إذا قلت: ضرب سعيد جعفراً فإن " ضرب " لم تعمل في الحقيقة شيئاً وهل تحصل من قولك ضرب إلا على اللفظ بالضاد والراء والباء على صورة فعل فهذا هو الصوت والصوت مما لا يجوز أن يكون منسوباً إليه الفعل. وإنما قال النحويون: عامل لفظي وعامل معنوي ليروك أن بعض العمل يأتي مسبباً عن لفظ يصحبه كمررت بزيد وليت عمراً قائم وبعضه يأتي عارياً من مصاحبة لفظ يتعلق به كرفع ومحصول الحديث فالعمل من الرفع والنصب والجر والجزم إنما هو للمتكلم نفسه لا لشيء غيره. وإنما قالوا: لفظي ومعنوي لما ظهرت آثار فعل المتكلم بمضامة اللفظ للفظ أو باشتمال المعنى على اللفظ. وهذا واضح. واعلم أن القياس اللفظي إذا تأملته عارياً من اشتمال المعنى عليه ألا ترى أنك إذا سئلت عن " إن " من قوله: ورج الفتى للخير ما إن رأيته على السن خيراً لا يزال يزيد فإنك قائل: دخلت على " ما " - وإن كانت " ما " ههنا مصدرية - لشبهها لفظاً بما النافية التي تؤكد بإن من قوله: ما إن يكاد يخليهم لوجهتهم تخالج الأمر إن الأمر مشترك وشبه اللفظ بينهما يصير " ما " المصدرية إلى أنها كأنها " ما " التي معناها النفي أفلا ترى أنك لو لم تجذب إحداهما إلى أنها كأنها بمعنى الأخرى لم يجز لك إلحاق " إن " بها. فالمعنى إذاً أشيع وأسير حكماً من اللفظ لأنك في اللفظي متصور لحال المعنوي ولست في المعنوي بمحتاج إلى تصور حكم اللفظي. فاعرف ذلك. واعلم أن العرب تؤثر من التجانس والتشابه وحمل الفرع على الأصل ما إذا تأملته عرفت منه قوة عنايتها بهذا الشأن وأنه منها على أقوى بال ألا ترى أنهم لما أعربوا بالحروف في التثنية والجمع الذي على حده فأعطوا الرفع في التثنية الألف والرفع في الجمع الواو والجر فيهما الياء وبقي النصب لا حرف له فيماز به جذبوه إلى الجر فحملوه عليه دون الرفع لتلك الأسباب المعروفة هناك فلا حاجة بنا هنا إلى الإطالة بذكرها ففعلوا ذلك ضرورة ثم لما صاروا إلى جمع التأنيث حملوا النصب أيضاً على الجر فقالوا ضربت الهندات " كما قالوا مررت بالهندات " ولا ضرورة هنا لأنهم قد كانوا قادرين على أن يفتحوا التاء فيقولوا: رأيت الهندات فلم يفعلوا ذلك مع إمكانه وزوال الضرورة التي عارضت في المذكر عنه فدل دخولهم تحت هذا - مع أن الحال لا تضطر إليه - على إيثارهم واستحبابهم حمل الفرع على الأصل وإن عرى من ضرورة الأصل. وهذا جلي كما ترى. ومن ذلك حملهم حروف المضارعة بعضها على حكم بعض في نحو حذفهم الهمزة في نكرم وتكرم ويكرم لحذفهم إياها في أكرم لما كان يكون هناك من الاستثقال لاجتماع الهمزتين في نحو أؤكرم وإن عريت بقية حروف المضارعة - لو لم تحذف - من اجتماع همزتين وحذفهم أيضاً الفاء من نحو وعد وورد في يعد ويرد لما كان يلزم - لو لم تحذف - من وقوع الواوين ياء وكسرة ثم حملوا على ذلك ما لو لم يحذفوه بين ياء وكسرة نحو أعد وتعد ونعد لا فإذا جاز أن يحمل حروف المضارعة بعضها على بعض - ومراتبها متساوية وليس بعضها أصلاً لبعض - كان حمل المؤنث على المذكر لأن المذكر أسبق رتبة من المؤنث أولى وأجدر. ومن ذلك مراعاتهم في الجمع حال الواحد لأنه أسبق من الجمع ألا تراهم لما أعلت الواو في الواحد أعلوها أيضاً في الجمع في نحو قيمة وقيم وديمة وديم لما صحت في الواحد صححوها في الجمع فقالوا: زوج وزوجة وثور وثورة. فأما ثيرة ففي إعلال واوه ثلاثة أقوال: أما صاحب الكتاب فحمله على الشذوذ وأما العباس فذكر أنهم أعلوه ليفصلوا بذلك بين الثور من الحيوان وبين الثور وهو القطعة من الأقط لأنهم لا يقولون فيه إلا ثِوَرة بالتصحيح لا غير. وأما أبو بكر فذهب في إعلال ثيَرة إلى أن ذلك لأنها منقوصة من ثيارة فتركوا الإعلال في العين أمارة لما نووه من الألف كما جعلوا تصحيح نحو اجتوروا واعتونوا دليلاً على أنه في معنى ما لابد من صحته وهو تجاوروا وتعاونوا. وقد قالوا أيضاً: ثيرة قال: صدر النهار يراعي ثيرةً رتعا وهذا لا نكير له في وجوبه لسكونه عينه. نعم وقد دعاهم إيثارهم لتشبيه الأشياء بعضها ببعض أن حملوا الأصل على الفرع ألا تراهم يعلون المصدر لإعلال فعله ويصححونه لصحته. وذلك نحو قولك: قمت قياماً وقاومت قواماً. فإذا حملوا الأصل الذي هو المصدر على الفرع الذي هو الفعل فهل بقي في وضوح الدلالة على إيثارهم تشبيه الأشياء المتقاربة بعضها ببعض شبهة! وعلى ذلك أيضاً عوضوا في المصدر ما حذفوه في الفعل فقالوا: أكرم يكرم فلما حذفوا الهمزة في المضارع أثبتوها في المصدر فقالوا: الإكرام فدل هذا على أن هذه المثل كلها جارية مجرى المثال الواحد ألا تراهم لما حذفوا ياء فرازين عوضوا منها الهاء في نفس المثال فقالوا فرازنة. وكذلك لما حذفوا فاء عدة عوضوا منها نفسها التاء. وكذلك أينق في أحد قولي سيبويه فيها: لما حذفوا عينها عوضوا منها الياء في نفس المثال. فدل هذا وغيره مما يطول تعداده على أن المثال والمصدر واسم الفاعل كل واحد منها يجري عندهم وفي محصول اعتدادهم مجرى الصورة الواحدة حتى إنه إذا لزم في بعضها شيء لعلة ما أوجبوه في الآخر وإن عرى في الظاهر من تلك العلة فأما في الحقيقة فكأنها فيه نفسه ألا ترى أنه إذا صح أن جميع هذه الأشياء على اختلاف أحوالها تجري عندهم مجرى المثال الواحد فإذا وجب في شيء منها حكم فإنه لذلك كأنه أمر لا يخصه من بقية الباب بل هو جار في الجميع مجرى واحداً لما قدمنا ذكره من الحال آنفاً. واعلم أن من قوة القياس عندهم اعتقاد النحويين أن ما قيس على كلام العرب فهو عندهم من كلام العرب نحو قولك في قوله: كيف تبني من ضرب مثل جعفر: ضربب هذا من كلام العرب ولو بنيت مثله ضيرب أو ضورب أو ضروب أو نحو ذلك لم يعتقد من كلام العرب لأنه قياس على الأقل استعمالاً والأضعف قياساً. وسنفرد لهذا الفصل باباً فإن فيه نظراً صالحاً.
هذا باب ظاهره - إلى أن تعرف صورته - ظاهر التناقض إلا أنه مع تأمله صحيح. وذلك أن يقل الشيء وهو قياس ويكون غيره أكثر منه إلا أنه ليس بقياس. الأول قولهم في النسب إلى شنوءة: شنئي فلك - من بعد - أن تقول في الإضافة إلى قتوبة: قتبي وإلى ركوبة: ركبي وإلى حلوبة: حلبي قياساً على شنئي. وذلك أنهم أجروا فعولة مجرى فعيلة لمشابهتها إياها من عدة أوجه: أحدها أن كل واحدة من فعولة وفعيلة ثلاثي ثم إن ثالث كل واحدة منهما حرف لين يجري مجرى صاحبه ألا ترى إلى اجتماع الواو والياء ردفين وامتناع ذلك في الألف وإلى جواز حركة كل واحدة من الياء والواو مع امتناع ذلك في الألف إلى غير ذلك. ومنها أن في كل واحدة من فعولة وفعيلة تاء التأنيث. ومنها اصطحاب فعول وفعيل على الموضع الواحد نحو أثيم وأثوم ورحيم ورحوم ومشي ومشو ونهي عن الشيء ونهو. فلما استمرت حال فعيلة وفعولة هذا الاستمرار جرت واو شنوءة مجرى ياء حنيفة فكما قال أبو الحسن: فإن قلت: إنما جاء هذا في حرف واحد - يعني شنوءة - قال: فإنه جميع ما جاء. وما ألطف هذا من القول من أبي الحسن! وتفسيره أن الذي جاء في فعولة هو هذا الحرف والقياس قابله ولم يأت فيه شيء ينقضه. فإذا قاس الإنسان على جميع ما جاء وكان أيضاً صحيحاً في القياس مقبولاً فلا غرو ولا ملام. وأما ما هو أكثر من باب شنئي ولا يجوز القياس عليه لأنه لم يكن هو على قياس فقولهم في ثقيف: ثقفي وفي قريش: قرشي وفي سليم: سلمي فهذا وإن كان أكثر من شنئي فإنه عند سيبويه ضعيف في القياس. فلا يجيز على هذا في سعيد سعدي ولا في كريم كرمي. فقد برد في اليد من هذا الموضع قانون يحمل عليه ويرد غيره إليه. وإنما أذكر من هذا ونحوه رسوماً لتقتدى وأفرض منه آثاراً لتقتفى ولو التزمت الاستكثار منه لطال الكتاب به وأمل قارئه. واعلم أن من قال في حلوبة: حلبي قياساً على قولك في حنيفة: حنفي فإنه لا يجيز في النسب إلى حرورة حرري ولا في صرورة صرري ولا في قوولة قولي. وذلك أن فعولة في هذا محمولة على فعيلة وأنت لا تقول في الإضافة إلى فعيلة إذا كانت مضعفة أو معتلة العين إلا بالتصحيح نحو قولهم في شديد: شديدي وفي طويلة: طويلي استثقالاً لقولك: شددي وطولي. فإذا كانت فعولة محمولة على فعيلة وفعيلة لا تقول فيها مع التضعيف واعتلال العين إلا بالإتمام فما كان محمولاً عليها أولى بأن يصح ولا يعل. ومن قال في شنوءة: شنئي فأعل فإنه لا يقول في نحو جرادة وسعادة إلا بالإتمام: جرادي وسعادي. وذلك لبعد الألف عن الياء " و " لما فيها من الخفة. ولو جاز أن يقول في نحو جرادة: جردي لم يجز ذلك في نحو حمامة وعجاجة: حممي ولا عججي استكراهاً للتضعيف إلا أن يأنس بإظهار تضعيف فعل ولا في نحو سيابة وحوالة: سيبي ولا حولي استكراهاً لحركة المعتل في هذا الموضع. وعلة ذلك ثابتة في التصريف فغنينا عن ذكرها الآن.
|